لم تكن الرمثا إقحوانة شمال الأردن فحسب ، بل كانت ولا زالت تمثل قلب سهل حوران النابض في وسط بلاد الشام، مما جعل منها عمقاً حقيقياً، ودائرة للأحداث الساخنة التي تأخذ بالاتساع لتشمل المنطقة كلها ، ولعل هذا الواقع بالإضافة للموقع الجغرافي مهّد لتكون منطقة الرمثا موطناً لعشيرة الزعبية، إحدى كبريات عشائر بلاد الشام ، والممتدة في عرض البلاد وطولها ، وهي حقيقة أكدت أن التقسيمات السياسية الحديثة، هي ضد وحدة الأرض والإنسان والتاريخ ، هكذا كانت حوران ببلداتها المتعددة، ملتقى الخير ومنطلق الثوار.
فلقد شهدت الرمثا في العام 1838م ولادة فواز بركات الزعبي ، الوليد الذي كان قدره مع الزعامة ومعاركة الأحداث الجسام ، فهو الذي ولد وترعرع في فترة حاسمة عصفت بالمنطقة والعالم بأسره ، ولما كانت زعامة العشيرة في عائلته، رُبّي تربية خاصة أخذته من شقاوة الطفولة إلى عالم الرجال، وهو بعد في بواكير عمره ، فأدخل إلى الكتاب ليتعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن، على يد الشيوخ ،عندما كانت الكتاتيب تلحق بالمساجد في الغالب ، ومع وجود بعض المدارس الحكومية، كان طلاب هذه الكتاتيب يلتحقون بالمدارس إن أسعفتهم الظروف ، وقليلاً ما كانت تتاح لهم هذه الفرصة ، فالتحق فواز الزعبي المنذور لقيادة عشيرته والمنطقة بالمدرسة الحكومية.
(موسى الكايد) لقد اكتسب فواز متطلبات الزعامة من أعمامه وبخاصة عمه الشيخ (فندي الزعبي) الذي اصطحبه معه في كافة المناسبات العشائرية والرسمية ، هذا بالإضافة إلى ما تميز به فواز منذ صغره بسمات القيادة، من فطنة وذكاء وطلاقة لسان وكرم ، وعندما شبّ وقوي عوده نصّبوه شيخاً وزعيماً، تتجاوز زعامته حدود عشيرته الكبيرة، فلقد كان الشيخ حينها بمثابة حاكم محلي مفوض ، فهو يقوم بحل المشاكل والقضاء بين المتخاصمين، وإصلاح ذات البين وجمع الضرائب إبان الحكم العثماني ، فلقد كان الشيخ فواز دائم الحركة وواسع الاطّلاع لما يجري في المنطقة ، وكان على صلة وثيقة بزعماء حوران أمثال فارس الزعبي وسليم الزعبي وإسماعيل الحريري ومصطفى مقداد وغيرهم.
لعل الوضع الديموغرافي للمنطقة في حوران وجبل العرب ، ووجود العرب والشركس بالإضافة للدروز وهجمات البدو ، جعل من مهمة فواز الزعبي مهمة بالغة التعقيد ، خاصة مع اندلاع القتال بين الشركس والدروز، ومن ثم بين الدروز وأهل حوران، وعلى رأسهم عائلة المقداد، وقد لعبت الحكومة العثمانية دوراً في إشعال الفتنة ليسهل لها السيطرة على جبل العرب وسهل حوران المضطربين .
حاول الشيخ فواز التدخل بين الأطراف المتحاربة والإصلاح بينها، من أجل توحيد الصف في مواجهة التحولات في حكم الأتراك، وما يحاك للمنطقة من مؤامرات ، لكن الواقع الصعب لم يكلل جهود هذا الشيخ الحكيم بالنجاح إلا في فترة لاحقة ، حيث قاد عشيرة الزعبية للعب دور الوسيط ، حتى خرجت الأوضاع عن السيطرة، فوجدت الدولة الفرصة سانحة للبطش بجبل العرب وتدميره ، من ثم الزحف جنوباً لسحق ثورة الكرك التي أضرّت بهيبة الدولة كثيراً في أطرافها الجنوبية. لم يكتفِ الشيخ فواز بالدور العشائري ، فلقد امتلك وعياً سياسياً بالفطرة أوجده الواقع المتردّي ، واستفحال ظلم أبناء المنطقة من قبل الحكومة ، التي خرجت عن نهجها السابق الأقل تعسفاً ، فكان أحد قادة الجمعية القحطانية السرية، الهادفة لمواجهة سياسة التتريك واستعباد العرب ، وقد أسهم في انتشارها في سهل حوران ، بالإضافة لجمعية ( العربية الفتاة) التي انتسب لها وعمل من أجل تحقيق أهدافها من أجل إنصاف العرب والمحافظة على حقوقهم ، وقد لعب دوراً بارزاً مع وجهاء المنطقة من أجل تأمين سلامة قوافل الحجاج خاصة مع ضعف الدولة واشتداد الاقتتال الداخلي.
قادت حنكة الشيخ فواز ليعلن دعم الدولة في حربها ضد الدول الغربية عند اندلاع الحرب العالمية الأولى، وذلك من أجل حماية الولايات العربية، من الوقوع في أيدي بريطانيا وفرنسا انتظاراً لما ستؤول إليه الأوضاع في المنطقة ومحيطها ، وقد بلغت به الحماسة، أن تطوع على كبر سنه في حملة قناة السويس .
ويذكر الدكتور محمود الزعبي، أن الشيخ فواز أسر مع مجموعة من الضباط العرب ونفي إلى الهند على يد البريطانيين ، لكنه عاد إلى بلدته الرمثا عام 1916م ، وقد أزعجه تنكر جمال باشا لتضحيات العرب وتنكيله بهم ، وما قام به من قتل وإعدام وسجن لعدد من قادة العرب ومثقفيهم ، فكان الشيخ من أوائل المبادرين للاجتماع بالأمير فيصل بن الحسين، في دار البكري في دمشق من أجل الإعداد للثورة العربية ، وكان هذا اللقاء الأول بينه وبين الأمير الذي نادى في ذلك الاجتماع (طاب الموت يا عرب) ، وقد شارك الشيخ في أهم الاجتماعات السرية، التي مهدت لقيام الثورة، وعمل على استقطاب العشائر للانضمام للثورة وتوحيد صفوفها ، وأسهم معهم في خوض معارك ناجحة ضد القوات التركية ، مما مهد الطريق أمام جيش الثورة لدخول دمشق منتصراً.
بعد نجاح الثورة وتحرير الأرض العربية ، شاركت العشائر الأردنية في الشمال بهجمات على الوجود الفرنسي على السواحل السورية قبل معركة ميسلون ، وكعادته لم يتخل الشيخ فواز عن دوره النضالي ، فدعم هذه المعارك بالسلاح والمال والرجال ، لكن نتيجة معركة ميسلون التي وقعت على مشارف دمشق كانت قاسية، وذات تأثير خطير على مشروع استقلال سوريا الطبيعية ، لذا اشترك الشيخ فواز في ثورة حوران ومعركة غزالة، التي تمكن خلالها الثوار من قتل رئيس الوزراء العميل للفرنسيين وعدد من رجالاته ، وكذلك ضباط وجنود فرنسيين ، مما أجبر فرنسا أن تسيّر حملة لمواجهة ثوار حوران ومقاتلي شرق الأردن بقيادة منور الحديد ، لكن الآلة العسكرية الفرنسية كانت لها الغلبة ، غير أن ذلك لم يخمد نار المقاومة ، وبلغ من تكاتف أهالي منطقة الرمثا مع حوران، أن ساهموا في دفع الغرامة الكبيرة التي فرضتها فرنسا على الأهالي في أعقاب الثورة .
تمكن الشيخ فواز من تشكيل حكومة محلية في الرمثا بقيادة ابنه ناصر الذي شغل منصب مدير ناحية الرمثا، مما مكّنه من الاستمرار في مساعدة الثوار في حوران وجبل العرب ، وكان من الداعين للأمير عبد الله بن الحسين للقدوم إلى عمان، وقيادة المقاومة من أجل تحرير التراب السوري كاملاً. بعد استتباب الأوضاع في شرق الأردن وتأسيس الإمارة ، سعى الشيخ فواز إلى المصالحة مع العشائر البدوية في مضارب بني حسن، وكذلك مع السرحان بعد ذلك، حتى لا تعود المنطقة للأحداث الدامية ، حيث رعى الأمير عبد الله هذا الصلح مع عشائر السرحان والقـرى الفلاّحية . وأسهم الشيخ في المؤتمرات الوطنية التي كان آخرها اشتراكه في المؤتمر الوطني الذي عقد في مضافة آل التل .
لقد كان الشيخ فواز الزعبي مناضلاً وسياسياً، ورجل مرحلة خلّد اسمه فعلاً وانجازاً ، ولم يتوان عن العمل حتى وفاته عام 1939م ، وقد غادرنا كزعيم كبير تقف على أكتافه أحداث جسام تحمل ملامح فترة حاسمة من تاريخنا المعاصر